خطورة الموت في الحياة
1
الهدف من النظريات الاجتماعية هو تكوين شخصية اعتبارية للفرد في مرايا المجتمع المتحولة. وهذا يعني بناء إطار فكري مركزي للفرد باعتباره حامل مشروع النهضة، والعقل المُفكِّر في منظومة التحولات الاجتماعية .
وهذه التحولات خليط من النظام والفوضى، والعناصرِ الإرادية والعناصر الخارجة عن إرادة الإنسان، ولا يوجد مجتمع _ مهما بَلَغَتْ درجة تقدُّمه وازدهاره _ يَخلو من عناصر الفوضى والعبث . والحل الوحيد للتعامل مع هذا التَّحدي المصيري هو تحويل الفوضى والعبث من بِنْية تدميرية إلى نسق فكري خاضع للمنظومة الاجتماعية العامة، تمهيدًا لإزالته ، وتطهير العقول مِنه . وعندما تصير الانحرافات عن مسار المجتمع مُجرَّد أفكار ذهنية ، لا تطبيقات لها على أرض الواقع ، يَسهُل مُناقشة أصحابها ومُحاورتهم بالأدلة والبراهين ، وإزالة شُبهاتهم، وتنظيف عقولهم ، وتصحيح مسارهم ، وإعادة دمجهم في المجتمع باعتبارهم مرضى تَمَّتْ مُعالجتهم .
2
المجتمعات الإنسانية تخشى من استخدام الأسلحة أو زراعة القنابل أو سقوط قتلى ، ولكن لا أحد يُفكِّر بالسلاح الموجود داخل الإنسان ، أو القُنبلة التي قد يَحْملها في عقله ، أو قتل أحلام البشر ، وتحويلهم إلى قتلى سائرين في الشوارع بلا حاضر ولا مُستقبل . إنَّنا نحزن على الذين ماتوا وانتهت حياتهم ، ودُفنوا تحت التراب. ولكن مَن سيحزن على الذين ماتوا في الحياة، وما زالت حياتهم مستمرة،ويمشون على الأرض؟. هؤلاء الأموات الذين يتحركون على أقدامهم في كل مكان وزمان ، ينبغي إعادتهم إلى الحياة ، وتحويلهم إلى عناصر فعَّالة في بناء أنفسهم ومجتمعاتهم . وهنا تبرز خطورة الموت في الحياة ، كما تبرز خطورة أن يموت الإنسان قبل الموت. وكما أن الطبيعة ضِد الفراغ ، كذلك الحياة ضِد العدم. وينبغي على الإنسان أن يعيش حياته كاملةً، لأنها فُرصته الوحيدة . ولا مكان للأموات فوق التراب . والمجتمعُ الواعي لا يُبنَى إلا على القاعدة الثنائية ( التَّطَهُّر / التَّطهير ) ، التَّطَهُّر مِن الأخطاء والخطايا ، وتَطهير الأنساق الاجتماعية مِن السلبيات . وامتلاك المجتمع للوَعْي هو الخطوة الأساسية نحو الانطلاق إلى الأمام . ولا يمكن للمجتمع أن يُحوِّل الوَعْي إلى نهضة شاملة ، إلا بتفعيل قاعدة " دِرهم وِقاية خَير من قِنطار عِلاج " .
3
المشكلة الجذرية في بِنْية المجتمعات الإنسانية هي أن الجميع ينتظرون الشخصَ كَي يَمرض ثُمَّ يُحاولون عِلاجه ، والصواب هو حماية الشخص من المرض ، وتعزيز مناعته ، وعدم انتظار المرض كي يصل إلَيه . والجميع ينتظرون المصيبة كي تقع على أرض الواقع ، ثُمَّ يَبحثون عن وسائل إزالتها ، وكيفية التخلص منها . والصواب هو اتِّخاذ خطوات واقعية لا شعاراتية ، لمنع حدوث المصائب والكوارث . والجميعُ ينتظرون وقوع الجريمة في المجتمع ، ثُمَّ يَبحثون عن أسبابها ودوافعها ، ويُهدِّدون باتِّخاذ أشد العقوبات . والصواب هو بناء نظام أخلاقي في المجتمع ، وتعزيز الوازع الإنساني في داخل الفرد ، كي يبتعد عن الجريمة مِن تِلقاء نَفْسه ، فلا يُعقَل أن يُوضَع شرطي حارس على كل فرد من أفراد المجتمع . ومِن غَير المنطقي وضع مُعلِّم لكل مواطن ، يُعلِّمه الأخلاقَ وفضائل الأعمال. إذن، يجب أخذ المُبادَرة ، والسيطرة على الأحداث ، وعدم اللهاث وراءها . والمجتمعُ السليم يَسبِق الأحداثَ ، ولا يَتركها تَسبِقه . والفردُ الصالح هو فِعْل لا رَد فِعْل . وإذا وُضعت العربة أمام الحصان ، فلن يتحرَّك الحصان ولا العربة .
4
الفردُ الذي يستخدم لغة السِّلاح في مجتمعه ، ولا يَعرف لُغةَ الحوار مع أبناء جِلْدته ، هو عبارة عن آلة ميكانيكية عمياء ، ويَحمل في أعماقه سلاحًا خطيرًا ( منطق القوة ). وإذا نجح المجتمع بكل أطيافه الفكرية في الوصول إلى هذا الشخص ، وتطهير أعماقه من هذا المنطق المنحرف ، بالأدلة المنطقية المُقنِعة ، فسوفَ يغدو مواطنًا صالحًا ومُصلِحًا ، لأن السلوك الخارجي انعكاس عن القناعات الداخلية . ولو وصل المجتمع إلى القنابل المزروعة في عقول بعض أبنائه ، وقام بتفكيكها بالبراهين العقلانية الهادئة ، لَمَا احتاج إلى بذل الوقت والجُهد والمال من أجل تفكيك القنابل على أرض الواقع .